إستيقظت كعادتها على زقزقة العصافير، فتحت نافذتها لتتأمل سحر أجمل شروق، و تتنفس ملء رئتيها هواء و رائحة البحر
و تستمتع بأمواجه المتلاطمة على الصخور كنغمات سيمفونية تطرب لسماعها كل أُذن، هذه الأخيرة التي سمعت جرس الباب الذي كان من ورائه ساعي البريد
ترك رسالة في صندوق الرّسائل و رحل.
أخذت ما كان بالصندوق و بدأت تقلّب الرّسائل الواحدة تلوى الأخرى حتى وقعت عيناها على ظرف مكتوب عليه اسمها،
سارت نحو المطبخ أين كانت والدتها و أخيها يتناولان فطور الصباح كالعادة و هي تُقلّب الرّسالة و تفتحها لتجد بها
ثلاث ورقات ممسّكة بحروف خُطت بيد فنّان و كان هذا أوّل شيء شّد انتباهها فهي تعشق كل شيء جميل.
جلست بينهما و هي تقرأ الرّسالة و بدأت عيناها تتسعان و بدت على محيّاها علامات الإستغراب...
لاحظت والدتها ذلك و سألتها: من المرسل؟ فردّت: أحمد.
من يكون أحمد؟ يبلغ من العمر ثلاثون حولاً، -أجابت- ، يعمل بمستشفى كنائب مدير، عيناه عسليتان و شعره أشقر داكن لونه، يهوى الرّسم و المطالعة و ...
قاطعها أخوها الأكبر: تعرفينه؟ نفت بشدّة و عيناها لا تبرحان ما تقرأ و بكل اهتمام، كل هذا موجود في هذه الصفحات، -وضحّت-..
أخذ الرّسالة من بين يديها و بدأ يقرؤها بصوت مسموع حتى وصل إلى: "أنا لا أعرفكِ و لم أركِ قطُّ، لكن سمعت عنكِ و عشقتك و الأذن تعشق قبل العين أحيانا"
طوى الرّسالة و قال: مؤكّدٌ هو يمزح و ابتسم مستهزئاً، وقف من على كرسيه و قال: أنا ذاهب، أراكم مساءً،
ثم توّقف و نظر إلى أخته و خاطبها بنبرة حادة لم تتعود عليها: لا تسبحِ كثيراً بين حروفه الزائفة و لا تعيري ما جاء في الرّسالة كل هذا الإهتمام،
إن كان صادقاً فيما يقول عليه أن يقصد بابكِ و أهلكِ لا صندوق بريدكِ...
إبتسمت و ردّت: معك كل الحّق يا أخي، لكنها لم تخفِ لحظتها إعجابها بكل ما جاء في طيات الرّسالة، فبغض النظر عن أوصافه كانت بينهما نقاط مشتركة عديدة...
و بالرّغم من أن اليوم بدأ بحدث غيّر روتينها إلاّ أنها غيّرت موجة أفكارها و عادت لمزاولة حياتها العادية متجاهلة كل ما جرى.
بعد مرور أسبوع على الحدث...
كانت عطلة آخر الأسبوع و الكل مجتمع في البيت الذي حّل على أهله ضيف لم يكن في الحسبان، شابٌ وسيمٌ بهيُ الطلعة تسعد كل عين لرؤيته..
هذا ما قاله ربّ ُ البيت و أعقب: تُراه يكون صديق ولدنا؟ فقد طالت غيبته هذه المرّة عنّا...
بعد واجب الضيافة معه و بعد الإستفسار عن سبب حضوره؛ جاء الأخ الأكبر ليخبر أخته أن صاحب الرّسالة هنا و تقدّم لخطبتها...
صمتت في ذهول و أعلنت قبولها في خجل و الفرح يرقص في عينها، و بالفعل ما هي إلاّ أيام و تمت فيها مراسيم الخطبة و الكل كان سعيداً...
غير أن الغريب في الأمر أن كل هذا حدث و هي لم تره بعد و لم يرها...
كانت الشمس تستعد للرّحيل و إسدال ستار أشعتها الذي ينير دربها عندما رجعت للبيت من يوم متعب قضته في التجهيز لأمور عرسها و الفرحة تملأ قلبها
رغم كل التعب الذي نال منها و أنهك قِواها، فرٍحة بفستان زفافها و كل زينتها، قصدت والدتها، ضمّتها و كأنها لم ترها دهراً و أخذتها من يدها إلى غرفتها لتريها
كل ما أحضرت بلهفة و شوق و هي تُطلق بهجتها في كل مكان، غير أنها انتبهت لنظرات والدتها التي كانت تتحاشاها و في نفس الوقت تراقب كل تحركاتها بدل النظر إلى مشترياتها.
ماما، ماذا هناك؟ ألم يعجبكِ فستان زفافي؟
بلى، مؤكد هو جميل –ردّت والدتها بصوت خافت و هي ترسم على محياها إبتسامة مرغمة-،
لكنها أحست بنبرتها المتغيّرة و ألحت عليها: أمّي رجاءً أخبريني ماذا هناك؟ تخفين شيئاً ما عنّي أعرفك جيّدا.
أجابتها: عائشة جاءها خاطب اليوم؟
قفزت من مكانها و صرخت و هي تطلق ضحكات صادقة من القلب منبعها...
-فعائشة هي صديقتها الحميمة و جارتها الوحيدة في الحي- : حقاً؟ هذا رائع، من الذي خطبها؟ سألت بلهفة و اندفاع،
عائلة خطيبك، قالتها و هربت بعينيها من ابنتها، تابعتها بعيونها تسأل، أخوه؟ ردّت: لا و التفتت عنها بوجهها،
واصلت أسئلتها المتتالية بعدما لحقت بها و هي تحاول أن تضع عينيها في عيني والدتها التي تهرب بوجهها عنها ذات اليمين و ذات الشمال: إبن عمّه إذن؟!
و لا هذا.. أحد أقاربه؟ أيضا كان الجواب : لا...إستطردت -لكن هذه المرّة بنبرة متغيّرة ضعيفة بائسة- : من؟
هو نفسه الذي خطبك؛ أحمد.
من؟ !! كرّرت السؤال و كأن الخبر كان بعيداً عن سمعها أو غريباً لفهمها فلم تستوعبه بادئ الأمر، بل لم تصدقه، أخذت تلهث وراء أفكارها المشتتة المضطربة،
تعدو في كل اتجاه و تتخبط على غير هدى، كعصفور مسّته ريح في ليلة عاصفة فأضاع مأواه..ترنح الدّمع في عينيها و قالت في حزن: لا..مستحيل ! ...
أصيبت بدوار أفقدها توازنها حتى كادت تقع من طولها لولا أن كانت والدتها أمامها؛ إرتكزت عليها و ساندتها حتى فراشها، فوقع الصدمة كان قاسياً عليها.
كان صوتها يأتي و كأنه من بئر سحيقة القرار و لم تنبس ببنت شفة و جفّ الدّمع في عينيها..، لبثت تنظر إلى سقف غرفتها في ذهول..
حتى غابت عن وعيها و ابتعدت عن الواقع و هربت بتفكيرها إلى عالم كلّه فراغ هي وحدها سيّدته و ملكته لتستفيق بعد مدّة على هزّات والدتها و أحضانها و قبلاتها الخائفة
الممزوجة بدموعها الحارقة لتنتشلها من غيبوبتها التي تمنت لو لم تستفق منها.
بقيت على ذا الحال مدّة من الزمان إلى أن عادت لرشدها و اقتنعت بقدرها و عادت لمزاولة حياتها محاوِلة أن تتناسى ما جرى لها و حلّ بها.
بعد مرور عدّة شهور...
مرّت من أمامه و لم يصدّق أنها هي، عرفها من أخيها الأصغر المرافق لها، سأل و بالفعل تأكد أنها هي؛
تلك التي أحبّها و عشقها دون أن يراها...إلاهي ... ماذا فعلت بنفسي و بها؟! و كيف بيدي و منها ضيعتها؟! وقف متسمراً ينظر إليها،
جمدت عيناه و تمنى أن لا يرى أحدا بعدها، كان يتأملها بحب و عمق و نظراته تضم الكثير من المعاني: الحزم، الإصرار،
الإهتمام الشديد و كذا الندم الكبير على ما فقد..
قصد بيتها أخرى لكن هذه المرّة كان كلّه عزم و ثقة على أن لا يبعده أحد عنها، ترك رسالة لها شرح و وضّح كل شيء فيها و كيف أجبره أهله على الزواج من غيرها
بسبب سوء فهم رغم أنه لم يتزوج من صديقتها، جدّد عهده و طلبه لها و بقي ينتظر في شغف جوابها.
قرأت الرّسالة و ابتسمت و هي تستنشق الهواء النقي المنبعث من البحر عبر نافذتها و تزفر بعيداً ما لم يزل عالقاً من مُقت صدمتها
و هي تؤكّد لنفسها: سبحان الله .. الأذن التي سمعت و عشقت هي نفسها من سمعت كلام الناس و صدّقت...
مزّقت الرّسالة إلى أشلاء صغيرة و أرجعتها ظرفها و أعقبت: هذا جوابي و ردّي عليه و ليأخذه بعين الإعتبار،
من يترك لأذنه الإختيار و أخذ القرار و يصدق كل ما يقال و يُلغي شخصيته و لا يدافع عمن أحب و عشق و يلوذ بالفرار
هو في نظري شخص مهزوم، مهزوز، ضعيف لا يلزمني و لا يناسبني و هذا آخر قرار...
إنتهى...
بقلمي...